المادة    
ثُمَّ يقول: [فإن أردت مزيد إيضاح لذلك فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة، الإيجاد، والإعداد، والإمداد] فأمَّا الإيجاد: فقد تقدم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يوجد إلا ما هو خير، أي أنه ليس شراً من جميع الوجوه، ثُمَّ إن أعده أو أمده بالخير فهنا يكمل الخير، ثُمَّ يقول: [فإيجاد هذا خير] أي: إيجاد الذي هو شر هو خير بالنسبة إِلَى الله، [وكذلك إعداده وإمداده، فإن لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد] أي: بقي أنه موجود، وبقي أنه مراد، وأنه داخل في المشيئة، ولكن لم يعده الله للخير، ولم يمده بالخير.
  1. الشر في الأسباب وليس في الخلق والوقوع

    ثُمَّ يقول: [حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إِلَى الفاعل، وإنما إليه ضده] فهذا إيضاح لما تقدم، وهو أن كونه خلقه الله عَزَّ وَجَلَّ لا يعني أنه من هذه الصفة أو الجهة شراً، لكن من جهة أن صاحبه فعله يكون شراً بعد قيام الحجة عليه. ووجود أسباب الهداية بين يديه، فلو أنَّ أحداً فعل ذنباً محرماً، وهو لا يعلم، كَانَ يكون معذوراً بأي سبب من أسباب العذر.
    فإن جهة الشر أيضاً تنتفي منه من الناحية الشرعية، أي أنه لا يسمى شراً شرعاً إلا ما كَانَ متوفراً فيه الشروط التي وضعها الشرع، لاعتبار ذلك شراً أو جريمة أو منكراً أو معصية، فإذا حصلت ولم يتوفر شروطها لعارض من العوارض أو سبب من الأسباب، فإن ذلك لا يكون شراً ولا مكروهاً، مثل حال بعض أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين كانوا يعذبون، حتى أن أحدهم يمر به الجعل، وهو الحيوان المعروف، فيقول له الكفار: قل هذا ربي.
    فَيَقُولُ: من شدة التعذيب والأذى والتعب: هذا ربي، وهذا الكلام في ذاته شر، لكنه شرعاً ليس بشر، لأن الله تَعَالَى يقول: ((إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَان)) [النحل:106] فهو لم يقل الكفر عَلَى جهة الإنكار للحق والعناد، وإنما قاله وهو مكره، إذاً مجرد الخلق والوقوع والتقدير ليس بشر، وإنما لتوفر أسباب وشروط تجعله شراً أو تجعله خيراً
    .
    ومعنى [إليه ضده] أي: إنما ينسب إِلَى الفاعل أي "الله" ضد ذلك الذي هو الخير، أو "إلى ضده" أي ينسب إِلَى ضد الله الذي هو ضد الخالق وهو الفاعل، ثُمَّ يقول: فإن قيل (هلاَّ أمده إذ أوجده) هذا الإشكال معناه أي: ما دام أن الله أوجده وخلقه، فلماذا لم يمده كما أن هناك أشياء خلقها وأمدها؟ والجواب هو قول المصنف: [ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده، وإنما اقتضت إيجاده وترك إمداده، فإيجاده خير، والشر وقع من عدم إمداده]، حكمة الله عَزَّ وَجَلَّ لم تقتضِ أن يخلقه، ويمده، ولكن له حكمة في أنه خلق أشياء، وأمدها، وخلق أشياء ولم يمدها، وبهذا يتضح الإشكال الذي سيذكره المُصنِّف بعده.
    قَالَ المُصنِّفُ -رحمه الله تعالى-:
    [فإن قيل: فهلا أمد الموجودات كلها؟ فهذا سؤال فاسد، يظن مورده أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة! وهذا عين الجهل! بل الحكمة كل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الذي بين الأشياء، وليس في خلق كل نوع منها تفاوت، فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت، والتفاوت إنما وقع بأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق، وإلا فليس في الخلق من تفاوت، فإن اعتاص عليك هذا ولم تفهمه حق الفهم، فراجع قول القائل :
    إذا لم تستطع شيئاً فدعه            وجاوزه إِلَى ما تستطيع]اهـ.

    الشرح :
    هذا الإشكال تابع لما قبله، فأولاً قالوا: إذا أوجده لماذا لم يمده؟
    فيُقَالُ: إن الحكمة اقتضت إيجاده ولم تقتضِ إمداده، ثُمَّ قالوا: [فهلا أمد الموجودات كلها فهذا سؤال فاسد] معنى هذا: أنه يقول: لماذا لم يخلق الله الشياطين والبشر عَلَى نسق الملائكة؟ أو لماذا لم تكن الموجودات جميعاً ملائكة؟ فنقول: هذا سؤال فاسد، فإن الحكمة فيه الآن متحققة خلاف ما لو كانت المخلوقات عَلَى نسق واحد، إذاً فما وقع من الشر في الكون، فهو من جهة المخلوقات التي خلقها، ولم يمدها بأسباب الخير، وهنا يجب ملاحظة الفرق بين قولنا: لم يمدها بأسباب الخير وبين قولنا: إنه لم يبينها، فإن الله تَعَالَى بيَّن لأهل الشر هذا الشر، وأقام الحجة عليهم.
    لكن لم يوفقهم للعمل به، ولم يمدهم بالأسباب، عَلَى أن يكونوا من أهل الخير، فخذلهم ووكلهم إِلَى أنفسهم، فهم يعلمون أنه شر فاختاروه، وعصوا الله عَلَى علم، وكفروا به عَلَى بينة.
  2. هل التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة ؟

    ومورد ذلك السؤال الفاسد هو ظنهم (أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة) فنرد عليهم بقول المصنف: [هذا عين الجهل، بل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الذي بين الأشياء] فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت، والتفاوت وقع لأمور عدمية يتعلق بها الخلق، وقوله تعالى: ((مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ))[الملك:3] أي: فليس عدم التفاوت المنفي عن الله أنه لم يخلق شراً وخيراً وحقاً وباطلاً، فوجود الأنواع المختلفة ليس تفاوتاً، بل هو عين الحكمة، أما لو خلق الله اثنين من نوع واحد وكلاهما عَلَى الهدى وهما في العمل الصالح، ثُمَّ جعل هذا في الجنة وهذا في النار، فهذا هو التفاوت، ولكن ما دام أن هذا نوع وهذا نوع، وهذا خير وهذا شر.
    فليس هناك تفاوت، والطاعة قد تكون خيراً من إنسان، وقد تكون شراً لآخر، فليس في هذا تفاوت من جهة أنها نوعين طاعة ومعصية، إنما يكون التفاوت إذا كَانَ النوع واحداً من جنس واحد، بشروط واحدة وحصل بينهما اختلاف، ولا يأت التفاوت لكون العباد عَلَى نوعين، نوع خير ونوع شر والتفاوت الذي هو تفاوت لا يليق أن يكون من أحد النوعين المتماثلين، فيكون في أحدهما ما يختلف عن الآخر
    ، [فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت، والتفاوت إنما وقع لأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق، وإلا فليس في الخلق من تفاوت] مجرد الإيجاد ليس فيه تفاوت، وإنما حصل الاختلاف في الإعداد والإمداد
    ، فإن قيل: فهلا أمد الموجودات كلها، أي ما دام أنه أوجده فلماذا لم يمده؟
  3. الفرق بين الإيجاد والإمداد

    هناك فرق بين الخلق والإيجاد، وبين الإمداد وبين العمل الذي نعمله، فكل الأشياء من جهة أن الله خلقها هي خير، إذ لا يخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شراً محضاً من جميع الوجوه، وجاء الشر لبعضها من عدم إمدادها بالخير إضافة إِلَى الخلق في ذاته، فهذا المخلوق يعامل عَلَى أنه فاعل يتحرك، إذا أمده الله بالتوفيق تحرك في الخير، وإن تركه ولم يمده تحرك فيما طبع عليه، وما دعته نفسه وشيطانه وهواه إليه، وإن كَانَ الحق واضحاً أمامه، فإن قيل: هلا أمد الموجودات كلها، معنى ذلك ألا يوجد في الكون شراً بإطلاق.
    الجواب: أن هذا السؤال فاسد، مورده يظن أن الحكمة أن تكون جميع المخلوقات كلها خيراً، فإذا وجد خير وشر في نظره فقد وجد تفاوت، لكن إذا كانت كل المخلوقات خير لم يحصل تفاوت والله تَعَالَى يقول: ((مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)) [الملك:3] فرد المُصنِّف عليه بقوله: الحكمة في هذا وجود هذا التفاوت للأسباب المتقدمة، فالتفاوت الذي ينافي الحكمة ليس في أنه يوجد أنواعاً مختلفة، وإنما التفاوت أن يكون في النوع الواحد، ليس في كون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أفضل الخلق، وخلق في المقابل إبليس، وهذا شر الخلق، فهذا تفاوت كبير. فهناك حكمة عظيمة أن يوجد هذا التفاوت، ((يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ)) [البقرة:105] هَؤُلاءِ في الجنة، وهَؤُلاءِ في النار، وقد ظهرت بذلك الحكم العظيمة التي تقدم بعضها. ثُمَّ يقول :
    إذا لم تستطع شيئاً فدعه            وجاوزه إِلَى ما تستطيع
    أي: أن هذه الأمور يوردها بعض الذين ينكرون القدر، ويستفسرون عن هذه الإشكالات، لكن نقول لهم: الشيء الذي لا تستطيعونه، ولا تفهمونه دعوه وجاوزوه إِلَى الذي تستطيعونه وهو التسليم والإقرار
    .
    والأصل في باب القضاء والقدر هو التسليم، كما جَاءَ جبريل إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله عن الإيمان فقَالَ: {أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره}، ولا يمكن أن يعجز أهل السنة عن الأجوبة العقلية، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم ينزل هذا الدين إلا وهو موافق للعقول السليمة، لكن العقول المريضة والعقول السقيمة، هي التي لا تستطيع أن تفهم ما أنزل الله، فتعارضه أو تضرب بعضه ببعض، فلذلك تجد أن الجبرية أو القدرية أخذت ببعض الدين وأنكرت البعض، لكن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لا يردون أي حديث ولا أي خبر يأتي من كلام الله ومن كلام رسوله، فيؤمنون بالجميع ويسلمون للجميع.